فصل: من أقوال المفسرين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



و{اتَّبع} يجُوز أن يكون عَطْفًا على {أسْلَمَ} وهو الظَّاهِر، وأن يكونَ حالًا ثانية من فَاعِل {أسْلَم} بإضمار {قَدْ} عند مَنْ يشترط ذَلِك، وقد تقدَّم الكَلاَم على {حَنيفًا} في البَقَرة، إلا أنَّه يَجُوزُ هنا أن يكُون حالًا من فَاعِل {اتبع}.
فصل:
{ملَّة إبْرَاهِيم} دين إبراهيم، {حَنِيفًا} أي: مسلِمًا مُخْلِصًا.
فإن قيل ظَاهِر هذه الآيَة يَقْتَضِي أنَّ شرع مُحمد- عليه الصلاة والسلام- نفس شَرْع إبْرَاهيمَ، وعلى هَذَا لم يَكُن لمحمد- عليه الصلاة والسلام- شريعة مُسْتقِلَّة، وأنتم لا تَقُولُون بِذلِك.
فالجوابُ: أن شَريعَة محمد- عليه الصلاة والسلام- تُشْبِه أكثر شَرِيعَة إبْرَاهِيمَ.
قال ابن عبَّاسٍ: ومن دينِ إبراهيم: الصَّلاة إلى الكَعْبَة، والطَّواف بها، ومَنَاسِك الحَجِّ، وإنما خصَّ بها إبْراهيم- [عليه والصلاة والسلام]-؛ لأنه كان مَقْبُولًا عند جَمِيع الأمَمِ، وقيل: إنَّه بُعِثَ على مِلَّة إبْرَاهِيم، وزِيدَت له أشْيَاء.
قوله: {واتخذ الله إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} فيه وجهان وذلك أنَّ {اتَّخذ} إن عَدَّيْناها لاثنين، كان مَفْعُولًا ثانيًا، وإلا كان حالًا، وهذه الجُمْلَة عَطْف على الجُمْلَة الاستِفْهَاميةِ التي مَعْنَاها الخَبَرُ، نَبَّهَتْ على شَرَف المَتْبُوعِ وأنه جَدِيرٌ بأن يُتَّبَع لاصْطِفَاءِ الله له بالخُلّة، ولا يَجُوز عَطْفُها على ما قَبْلَها لِعدم صلاحيَّتِها صلةً للموصول.
وجعلها الزَّمَخْشَرِي جملة مُعْتَرِضَة، قال: فإنْ قلت ما مَحَلُّ هذه الجُمْلةِ؟ قلت: لا محلَّ لها من الإعْرَاب؛ لأنَّها مِنْ جُمل الاعْتِرَاضَاتِ، نحو ما يجيء في الشِّعر من قَوْلهم: «والحَوَادِثُ جَمَّةٌ» فائدتُها تَأكيدُ وجوب اتِّباع ملّته؛ لأنَّ مَنْ بَلَغَ من الزُّلْفَى عند الله أن اتَّخَذَه خَلِيلًا، كان جديرًا بأن يُتَّبع فإنْ عنى بالاعْتِرَاضِ المُصْطَلحَ عليه، فَلَيْس ثَمَّ اعْتِراضٌ؛ إذ الاعْتِرَاضُ بين مُتلازِمِيْن؛ كفِعْل وفَاعِلٍ، ومُبْتَدأ وخَبَر وشَرْط وجَزَاء، وقَسَم وَجَواب، وإن عَنَى غير ذلك احتُمِل، إلا أنَّ تنظيرَه بقولهم: «والحَوَادِثُ جَمَّةٌ» يُشْعِر بالاعْتِرَاض المُصْطَلح عليه؛ فإن قولهم: «والحَوَادِثُ جَمَّةٌ» وَرَدَ في بَيْتَيْنِ:
أحدهما: بين فِعْل وفَاعِل؛ كقوله: [الطويل]
وَقَدْ أدْرَكَتْنِي وَالحَوَادِثُ جَمَّةٌ ** أسِنَّةُ قَوْمٍ لا ضِعَافٍ ولا عُزْلِ

والآخر يَحْتَمِل ذلك، على أن تكُونَ الباءُ زائدةً في الفَاعِل؛ كقوله: [الطويل]
ألاَ هَلْ أتَاهَا والحَوَادِثُ جَمَّةٌ ** بأنَّ امْرَأ القَيْس بنَ تَمْلِكَ بَيْقَرا

ويُحْتَمل أن يكونَ الفَاعِلُ ضميرًا دلَّ عليه السِّياق، أي: هل أتاها الخَبَر بان أمْرأ القيس، فيكون اعْتِرَاضًا بين الفِعْل ومَعْمُوله.
والخليلُ: مشتق من الخَلَّة بالفَتْح، وهي الحَاجَة، أو من الخُلَّة بالضَّمِّ، وهي المودة الخالصة.
وسُمِّي إبْرَاهيم عليه الصلاة والسلام خليلًا أي: فَقِيرًا إلى اللَّه؛ لأنَّه لم يَجْعَل فَقْره وفَاقَتَه إلاَّ إلى اللَّه.
قال القُرْطُبيُّ: الخَلِيلُ فعيل، بِمَعنى: فَاعِل؛ كالعَلِيم، بمعنى: عالم، وقيل: هو بِمَعْنَى المَفْعُول؛ كالحَبِيب بِمَعْنَى: المَحْبُوب، وإبراهيم- عليه الصلاة والسلام- كان مُحبًّا للَّه، وكان مَحْبُوبًا للَّه.
أو من الخلل.
قال ثَعْلَب: «سُمِّي خليلًا؛ لأن مَوَدَّته تَتَخَلَّلُ القَلْبَ» وأنشد: [الخفيف]
قَدْ تَخَلَّلْتَ مَسْلَكَ الرُّوحِ مِنِّي ** وَبِهِ سُمِّي الْخَلِيلُ خَلِيلا

وقال الرَّاغِب: الخَلَّة- أي بالفتح- الاختلالُ العَارِضُ للنَّفْس: إمَّا لشَهْوَتِها لِشَيْء، أو لحاجتهَا إليه، ولهذا فَسَّر الخَلَّة بالحاَجَة، والخُلَّة- أي بالضم-: المودة: إما لأنَّها تتَخَلَّل النَّفْس، أي: تتوسَّطُها، وإما لأنَّها تُخِلُّ النَّفْسَ؛ فتؤثِّر فيها تأثيرَ السَّهْم في الرَّمِيَّة، وإمَّا لفَرْطِ الحَاجَة إليْها.
وقال الزَّجَّاج: معنى الخليل: الذي لَيْس في مَحبَّتِه خَلَل، وقيل: الخلِيلُ هو الذي يُوافِقُك في خلالِك.
قال- عليه الصلاة والسلام-: «تَخَلقوا بأخلاق اللَّه» فلما بلغ إبْرَاهيم- عليه الصلاة والسلام- في هذا البَابِ مبلَغًا لم يَبْلُغْه أحَدٌ ممَّن تقدَّمَه، لا جَرَم خصَّه اللَّه بهذا الاسْمِ.
قال الزَّمَخْشَرِيُّ: الخَلِيلُ: هو الذي يُسَايِرُك في طَرِيقك، من الخَلِّ: وهو الطَّريق في الرَّمْل، وهذا قَرِيبٌ من الذي قَبْلَه، وقيل: الخَلِيْلُ: هو الذي يسد خللك كما تسُدُّ خَلَله، وهذا ضَعِيف؛ لأن إبراهيم- عليه الصلاة والسلام- لا يقال: إنه يَسُدُّ الخَلَلَ. اهـ. بتصرف يسير.

.تفسير الآية رقم (126):

قوله تعالى: {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا (126)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

.قال البقاعي:

ولما أخبر بمن يحبه ومن يبغضه وبما يرضيه وما يغضبه، وكان ربما توهم عدم القدرة على أخذه لغير ما أخذ، وجعله لغير ما جعل، أو تعنت بذلك متعنت فظن أن في الكلام دخلًا بنوع احتياج إلى المحالة أو غيرها قال: {ولله} أي والحال أن للمختص بالوحدانية- فلا كفوء له {ما في السماوات}.
ولما كان السياق للمنافقين والمشركين أكد فقال: {وما في الأرض} من إبراهيم عليه الصلاة والسلام ومن غيره إشارة إلى أنه التام المُلك العظيم المِلك، فلا يعطي إلا من تابع أولياءه وجانب أعداءه، ولا يختار إلا من علمه خيارًا وهو مع ذلك قادر على ما يريد من إقرار وتبديل، ولذلك قال: {وكان الله} أي الملك الذي له الكمال كله {بكل شيء} أي منهما ومن غيرهما {محيطًا} علمًا وقدرة، فمهما راد كان في وعده ووعيده للمطيع والعاصي، لا يخفى عليه أحد منهم، ولا يعجزه شيء. اهـ.

.قال الفخر:

في تعلق هذه الآية بما قبلها، وفيه وجوه:
الأول: أن يكون المعنى أنه لم يتخذ الله إبراهيم خليلًا لاحتياجه إليه في أمر من الأمور كما تكون خلة الآدميين، وكيف يعقل ذلك وله ملك السموات والأرض، وما كان كذلك، فكيف يعقل أن يكون محتاجًا إلى البشر الضعيف، وإنما اتخذه خليلًا بمحض الفضل والإحسان والكرم، ولأنه لما كان مخلصًا في العبودية لا جرم خصه الله بهذا التشريف، والحاصل أن كونه خليلًا يوهم الجنسية فهو سبحانه أزال وهم المجانسة والمشاكلة بهذا الكلام.
والثاني: أنه تعالى ذكر من أول السورة إلى هذا الموضع أنواعًا كثيرة من الأمر والنهي والوعد والوعيد، فبيّن هاهنا أنه إله المحدثات وموجد الكائنات والممكنات، ومن كان كذلك كان ملكًا مطاعًا فوجب على كل عاقل أن يخضع لتكاليفه وأن ينقاد لأمره ونهيه.
الثالث: أنه تعالى لما ذكر الوعد والوعيد ولا يمكن الوفاء بهما إلاّ عند حصول أمرين: أحدهما: القدرة التامة المتعلقة بجميع الكائنات والممكنات.
والثاني: العلم التام المتعلق بجميع الجزئيات والكليات حتى لا يشتبه عليه المطيع والعاصي والمحسن والمسيء، فدل على كمال قدرته بقوله: {وَللَّهِ مَا في السموات وَمَا فِي الأرض} وعلى كمال علمه بقوله: {وَكَانَ الله بِكُلّ شَئ مُّحِيطًا}
الرابع: أنه سبحانه لما وصف إبراهيم بأنه خليله بين أنه مع هذه الخلة عبد له، وذلك لأنه له ما في السموات وما في الأرض، ويجري هذا مجرى قوله: {إِن كُلُّ مَن في السموات والأرض إِلاَّ آتِى الرحمن عَبْدًا} [مريم: 93] ومجرى قوله: {لَّن يَسْتَنكِفَ المسيح أَن يَكُونَ عَبْدًا للَّهِ وَلاَ الملائكة المقربون} [النساء: 172] يعني أن الملائكة مع كمالهم في صفة القدرة والقوة في صفة العلم والحكمة لما لم يستنكفوا عن عبودية الله فكيف يمكن أن يستنكف المسيح مع ضعف بشريته عن عبودية اللها كذا هاهنا، يعني إذا كان كل من في السموات والأرض ملكه في تسخيره ونفاذ إلهيته فكيف يعقل أن يقال: إن اتخاذ الله إبراهيم عليه السلام خليلًا يخرجه عن عبودية الله، وهذه الوجوه كلها حسنة متناسبة. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال ابن عاشور:

وجملة {ولله ما في السموات وما في الأرض} إلخ تذييل جعل كالاحتراس، على أنّ المراد بالخليل لازم معنى الخلّة، وليست هي كخلّة الناس مقتضية المساواة أو التفضيل، فالمراد منها الكناية عن عبودية إبراهيم في جملة {ما في السموات وما في الأرض}. اهـ.

.قال الألوسي:

{وَللَّهِ مَا في السماوات وَمَا فِي الأرض} يحتمل أن يكون متصلًا بقوله تعالى: {وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصالحات} [النساء: 124] على أنه كالتعليل لوجوب العمل، وما بينهما من قوله سبحانه: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا} [النساء: 125] اعتراض أي إن جميع ما في العلو والسفل من الموجودات له تعالى خلقًا وملكًا لا يخرج من ملكوته شيء منها فيجازي كلًا بموجب أعماله إن خيرًا فخير وإن شرًا فشر وأن يكون متصلًا بقوله جل شأنه: {واتخذ الله} [النساء: 125] إلخ بناءًا على أن معناه اختاره واصطفاه أي هو مالك لجميع خلقه فيختار من يريده منهم كإبراهيم عليه الصلاة والسلام، فهو لبيان أن اصطفاءه عليه الصلاة والسلام بمحض مشيئته تعالى.
وقيل: لبيان أن اتخاذه تعالى لإبراهيم عليه الصلاة والسلام خليلًا ليس لاحتياجه سبحانه إلى ذلك لشأن من شؤونه كما هو دأب المخلوقين، فإن مدار خلتهم افتقار بعضهم إلى بعض في مصالحهم، بل لمجرد تكرمته وتشريفه، وفيه أيضًا إشارة إلى أن خلته عليه السلام لا تخرجه عن العبودية لله تعالى.
{وَكَانَ الله بِكُلّ شَئ مُّحِيطًا} إحاطة علم وقدرة بناءًا على أن حقيقة الإحاطة في الأجسام، فلا يوصف الله تعالى بذلك فلابد من التأويل وارتكاب المجاز على ما ذهب إليه الخلف، والجملة تذييل مقرر لمضمونه ما قبله على سائر وجوهه. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {وَللَّهِ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض} أي مِلكًا واختراعًا.
والمعنى إنه اتخذ إبراهيم خليلًا بحسن طاعته لا لحاجته إلى مخالّته ولا للتكثير به والاعتضاد؛ وكيف وله ما في السموات وما في الأرض؟ وإنما أكرمه لامتثاله لأمره. اهـ.

.قال الفخر:

إنما قال: {مَا فِي السموات وَمَا فِي الأرض} ولم يقل (من) لأنه ذهب مذهب الجنس، والذي يعقل إذا ذكر وأريد به الجنيس ذكر بما. اهـ.
قال الفخر:
قوله: {وَكَانَ الله بِكُلّ شَيء محيطًا} فيه وجهان:
أحدهما: المراد منه الإحاطة في العلم.
والثاني: المراد منه الإحاطة بالقدرة، كما في قوله لعالى {وأخرى لَمْ تَقْدِرُواْ عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ الله بِهَا} [الفتح: 21] قال القائلون بهذا القول: وليس لقائل أن يقول لما دل قوله: {وَللَّهِ مَا في السموات وَمَا فِي الأرض} على كمال القدرة، فلو حملنا قوله: {وَكَانَ الله بِكُلّ شَئ مُّحِيطًا} على كمال القدرة لزم التكرار، وذلك لأنا نقول: إن قوله: {للَّهِ مَا في السموات وَمَا فِي الأرض} لا يفيد ظاهره إلاّ كونه تعالى قادرًا مالكًا لكل ما في السموات وما في الأرض، ولا يفيد كونه قادرًا على ما يكون خارجًا عنهما ومغايرًا لهما، فلما قال: {وَكَانَ الله بِكُلّ شَئ مُّحِيطًا} دل على كونه قادرًا على مالآنهاية له من المقدورات خارجًا عن هذه السموات والأرض، على أن سلسلة القضاء والقدر في جميع الكائنات والممكنات إنما تنقطع بإيجاده وتكوينه وإبداعه، فهذا تقرير هذا القول، إلاّ أن القول الأول أحسن لما بينا أن الإلهية والوفاء بالوعد إنما يحصل ويكمل بمجموع القدرة والعلم، فلابد من ذكرهما معًا، وإنما قدم ذكر القدرة على ذكر العلم لما ثبت في علم الأصول أن العلم بالله هو العلم بكونه قادرًا، ثم بعد العلم بكونه قادرًا يعلم كونه عالمًا لما أن الفعل بحدوثه يدل على القدرة، وبما فيه من الأحكام والإتقان يدل على العلم، ولا شك أن الأول مقدم على الثاني. اهـ.